Thursday 14 August 2014

مقال: "التلفاز المعلق بالسقف" || هبه حداد

Share on Tumblr
رمضان بهذه المدينة يمر سريعا كأن احدا يطارده. لا يكاد الفجر يؤذن حتى يتلوه الظهر ومن بعده العصر , والمغرب لنجد العشاء ملتحما بهم ليعود الفجر مجددا. والأعباء اليومية لا تٌهادن هكذا امور, فهي تبقي مٌطردة في علاقة عكسية لا أشهد وطئتها إلا في اوقات مختلفة من السنة يكاد معها  يذهب عقلي كما تذهب انفاسي.

والحل ليس ببسيط كما هي المٌهادنة , فأيهما ارتأيته لوقتك خذلك الثاني , فتتفكك ماكينة حياتك التى انت "ترسها" الاساسي. تراكم الأعمال في حياة الفرد ليست مشكلتهِ وحده , انما هى ككرة الثلج تتدرج متدحرجة فوق روؤس الجميع!! ومن المسئولية بشىء ان يعترف الإنسان بنفسه عن نفسه عن اخفاقه التوازن في هذه المنظومة المتسارعة بإهراق سجل عمره. واختلفت الأسباب في نمذجة الوقت في ضيقه واتساعه على اختلاف المهمات , وليس التسويف وحده جٌل المشكلة وإن كان هو هو ظاهريا , ولكن يبقى السبب الرئيس وراء التهوين والتعطيل هو عطب النفس و ضيقها و تشابه الأزمنة و الأمكنة , و فراغ العقل او ترسه بالمعضلات , وهذه الأعراض من تداعيات فرط امتلاء النفس أو فرط فراغها , و القاعيين في هاتين الحالتين لعمري من المهلكات.

فالنفس إن ضاقت تصبح كالوحش المتمرد بين الضلوع يعصي اوامر العقل الحياتية وتّذبل الجسد و يركن المرء بسببها إلي الإنزواء او البحث عن التسلية وتصحب هذه العوارض قلة منسوب القدرة على الإبتكار و الحل والعقد و ما إلي ذلك من ضروريات الحياة التى بدونها تجد نفسك مكبلا إلي الارض بدون قيد , تبحث في وجوه الناس عما يريضيك و لا ترتضي شيئا , وهو مفهوم لا علاقة له بالقناعة او الصبر , وإلا ما كان اوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة" , كما قال ايضا صلوات الله عليه وسلامه" نعمتان مغبون فيهما , الصحة و الفراغ" , وهذين الحديثين يضعان بما يسمى الأن في علوم المجتمع "الفرضية وعكسها". فالرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما اسس لحياة الفرد منهاجها اليومي "Methodology" , حدد معه الأدوات المطلوبة "Instruments"  و هن "الترويح " , "تدبير الوقت " , و"الإنشغال المحمود". واذا استمرينا في هذا المنهج العلمي واعملنا القياس بين فئتين من الضجرةِ قلوبهم من "فرط منشغلين" , و "فرط متفرغين" ثم قمنا بتحليل "Analysis" نتائجهم النفسية بعد فترة ترويح لوجدنا ان الفرط المنشغلين هم الأحسن اداءا و والأسرع عودة لوتيرة البناء المجتمعي , ويتخلف ورائهم الفرط المتفرغين في حيرتهم الذين لا امل لهم.

وتطبيقا لمبدأ الترويح عن النفس , فالحلول متنوعة وكثيرة , رغم ان الممكن منها لدي هذا الأسبوع ليس بهذا التنوع , فلقد اثرت ان انعزل تماما عن مؤثرات حياتي اليومية من المهمات الشاقة و مطاردات العملاء و الطلبة وصرعات التكنولوجيا التى اكلت من ادمغتنا نصيب الأسد كـ WhatsApp , الذى بات كمحقق جرائم شخصى يتتبعك اينما ذهب ويعرف بالدقة مواعيدك لينقلها للمعسكر الأخر ليعرفوا عنك ملامح قد تبدوا عندما تتجمع خطيرة , كموعد نومك , واماكن تواجدك , وساعات دوامك , وربما حالتك النفسية, لأخذ اجازة من افكاري اجازة قصيرة اقضيها في اى شىء , اى شىء لا يُسبب لي اى إرهاق فكري.

اختياري الأول عادة يكون الذهاب للتسوق والتطلع بالوجوه الفارة من زخم الدْين لمزيد من الاستدانة, او المكوث مع كتاب ما اُثُري معه نفسي اللاهثة وراء الحقيقة والخيال معا, او مطالعة الأفلام الكلاسيكية القديمة الثرية بما قد ينفع الإنسان من قيم فنية وأدبية افتقدناها بدخول تجارة الأستهلاك في الفن السابع. ولكن هذا الأسبوع كان الوقت الوحيد المتاح لي هو عمل "اشعة مقطعية" على الدماغ لأعرف سبب نزيف اصابني في انفي , بعد ان ارجئها المعمل لي تارة و ارجئتها انا تارة اخرة بسبب الإنشغال , ولم يبق في المدة المحددة لي لعملها وقنا كثيرا , فتملكني الفضول وخاصة انها اول تجربة لي مع الجهاز الأشعة المقطعية الذى رأيته مرات كثيرة في المسلسلات الطبية  كـ Grey's Anatomy , وكنت متشوقة لأعرف اكثر عنه و عن طريقة استخدامه , ناهيك ان الأختبار يٌكلف المرء في العادة 300 ل 500 $ , فقررت ان لا افوت الفرصة , وحملت نفسي بعد اجتماع سريع بالعمل , لأكون امام المشفي في تمام العاشرة والنصف مساءا.

في مستشفي حكومي, يرتاده 2000 ل5000 شخص يوميا , يوجد مركز اشعة ال MRI و ال CT , يبدوا نظيفا في هذا الوقت المتأخر من اليوم , خالى تماما إلا من طفل و سيدة عجوز ومجموعة من الأطباء دخلوا في مزاج الخفارة الليلة و ممرضة واحدة! قابلني الدكتور المٌكلف برعاية الحالة  واستلم اوراق الطلب و اشار لي بالأنتظار. وفي قاعة الأنتظار حاولت ان "اسرح" في الملكوت و اراعي ألا اٌرهق فكري, وما هي لحظات بقاعة انتظار السيدات التى اصريت على اتباع التعليمات و المكوث فيها بالرغم كونها مظلمة تماما على عكس قاعة الرجال وكوني الوحيدة المنتظرة دورها بعد دخول الطفل المقعد والسيدة غرفتي الأشعة!! و انتبهت على صوت واحدا من الطاقم ينادي على اسمي , فتوجهت نحوه لنبدأ خطوات الأختبار!

بغض النظر ان الممرضة الوحيدة قد غادرت وقتما حان موعدي , واضطررت ان ابدأ خطوات الأختبار كاملة بمساعدة الرجل التقني , يدُلك على الخطوات كاملة , تخلع اى مصدر لوجود معدن , كدبابيس رداء رأسي الذى اضطررت انه ازيحه حتى لا يفشل الأختبار , تملكني الإحراج بعضا من الوقت ,ولكني اضررت ان اخوض الموقف بكل شجاعة. فراش المعمل الذى يرتفع عندما ينام عليه المريض ليدخل في فوهة جهاز الأشعة يُصدر ازيزا غريبا بدى لى مخيفا يحركه التقني من خارج غرفة الأشعة التى يقفلها عليك بالكامل, فطرأ على بالي ذلك الطفل الصغير , كيف تحمل هذه الجرعة من التجربة التى اخافتنى شخصيا, والمرأة العجوز كيف تملكت اعصابها لتغمض عيناها خوفا من ان يصبيها الليزر , او هكذا اعتقدت , ليدور الجهاز من حولك بشكل عنيف على فترات وكأنما وضعوك داخل "جهاز غسالة اتوماتيكية" تدور الدنيا من حولك وانت تقبع في المركز , وفشلت محاولة التفريغ الفكري , وتذكرت كل شىء في بضع ثوان , المرضى, تجارب الحميمية المستمرة مع الأجهزة الغربية , وجوه الأطباء والتقنيين الذين ربما لن يبتسموا لك مراعاة لخوفك أو ألامك, وتقاريرهم المٌشفرة التى لا تخبرك ما الخطب , ولا الفراش الذى كبلوك فيه برداء يمنع حركة يديك كالمجنون خشية ان تصيبك الأشعة , والأزيز, الذى قد يخلق العفريت في قلبك, وذاك الطفل المسكين الذى خاض التجربة مبكرا , والمرأة العجوز التى شارف عداد عمرها على التصفير , والمرضى ذوى الحالات المستعصية يأكلهم أمل الشفاء ووو ,,,وذلك التلفاز المعلق بالسقف لترفيهم !! حقا , من صاحب فكرة التلفاز المعلق بالسقف في غرفة الأشعة؟؟


No comments: