Friday 15 August 2014

خاطرة: الطريق الأعجوبة || هبه حداد

Share on Tumblr
أستوقفتني في ردهة معرض كبير للأثاث .. يجيطها العديد من غيرها من اللوحات .. وهي وحدها من جعلتني أقف كثيرا أمامها ..ليقف كل ما يتحرك من حولي .. وكل صخب الأطفال الراكضين وصيحات الأمهات تمنعهن من الزيع بين الناس .. وشروحات الباعة ممن يزينون بضاعتهم البراقة .. او القديمة .. واحيانا المعيبة.. و يشملني هدوء وسكينة فجائية .. وضوء أبيض ملفوف بنغم قديم غير معروف الترانيم.. طواحين السميد ورائحة الخبز المكتظ الجوانب .. كانت تسميه جدتي بالشمسي .. وغبار القمح المجروش و حفائف الرحاة وهي تمر دورة مستقرة كاملة نحو الطرف الذي لم يبلى بعد من دائرة حجرها العتيق و ... و هذا الطريق ... اللانهائي .. الساكن .. البارد .. الحبيب..

لم يأخٌذني تصميم الزوايا بقدر ما كان يشغل ذهني دوما وأنا صغيرة امشي فيه غائصة بين جدرايه المتوازيين وكأنهما طودين يتلمسان السماء يكادا أن يعانقاني .. لأتوحد , سوى ماهية الأحتمالات التي قد ينتهي عندها هذا الطريق.. بالرغم من أني حفظت الطريق جيدا ... لكن عقلي كان يغلبني في التخيلات .. من كشك البقالة حيث كنت ألُح على أمي تدعني أذهب لأبتاع السكاكر وحتى بيت جدتي مقدار 100 خطوة من طريق متعرج .. ساكن , نادرا ما يمر به أحد سواي في كل المرات التي مشيت فيه .. وبرغم من معرفتي الجيدة بنهايته الوشيكة ..إلا أني كنت اراه طويلا متمايلا متعدد النهايات وفي اخره شيء غير متوقع البته .. وكنت أصدق عقلي .. كتلك المرة التي رأيت فيها النور .. اخر الطريق ...

الطريق لبيت جدتي المُسكتين كبسمتها الموشومة بوجهها.. بقعتي المحببة في كل الأرض بعطلات الصيف القليلة التي سمحت لي أمي بالذهاب .. لأنني كنت أمرض كثيرا هناك .. احدى النساء قالت لها , أبنتك ستٌنظر , لا تدعيها تمشي وحدها .. واخرى أفتت , مسها طائفُ يُحب الأطفال.. وأنا في فراشي اتنفس الحمى .. ولا أقوى على قولها .. رأيته .. رأيت الرجل ذا الرأس الكبير .. مشي بحذاي ..رمقني بأبتسامة أخافتني... ذهب ولم يؤذني .. لكنها كانت ترهات طفلة تتقلب في جسدها متعرق ومنتفض ليلاً من الشمس التي لفحت جلدها الباهت...

وكما قال احدهم القلب الحي يحيي الجمادات من حوله ويحرك ساكنها، ويفهم لغتها، نعم فهي تتحدث وتشتكي وربما تتألم .. ولا يدرك ذلك إلا قلبٌ حي يفيض إيمانا...لم أرتبط حقيقةً بجدتي بقدر ما أرتبطت ليس ببيتها فحسب .. ولكن بتلك الطريق الأعجوبة المؤدية له .. ومبني الحظيرة التي كانت تشرف فيه الشمس وتغرب عنده أيضا.. والحيوانات التي كنت احسها عملاقة بشكل مخيف .. وخزين القش الذهبي يحملونه حيث تستقر الشمس عاليا بالسقيفة , التي حاولت صعودها يوما فلم ينالي سوى ألم ألتواء كاحلي ...واعشاش الحمام.. بترانيمة المزعجة صباحا ,, وكأنهم في مظاهرة .. غير أنها كانت مضحكة وقريبة للقلب... ودار الضيافة العيساوية يسمونها "مندرة" يفصلها جدار عن بيت جدتي, والتي دأب جدي أن يستقبل بها ضيوفه والمارين وظل العهد باقيا حتى بعد وافاته ووفاتها ... كل شيء فيه كان جميل ومحبب .. بارد في اكثر أوقات الصيف كآبة و حرارة .. وأفضل اوقاتي فيها وهي فارغة قبل المغيب .. وتصميمها النمطي ككل المباني القديمة ...بأسقف عالية و جدران مزينة و قاعات أمتلأت بالفٌرش لأستقبال الزائرين.. وبهو يمتلء بنسخ للمصحف الشريف حيث تقام حلقات الذكر التي كنت أتوسل لأمي أن تدعي أذهب .. لكنها كانت ترفض .. فأستغل فرصة إنشغالها .. لأذهب وأرى القاعة وقد اكتظت بالرجال .. يقرأون القرآن ويختمونه ويهللون ... وكانت تلك من اندر اللحظات نورانية في حياتي ..حتى يكتشف وجودي احد أقاربي فيُعيدني لأمي المشغولة بالحديث الغير مفهوم البته مع باقي نساء أسرتها ... وأنال نصيبي من التقريع ..

عندما عدت باللوحة للبيت .. رفعتها بجانب وجهي .. وسألتها : أتتذكرين؟
فأجابت : حلقة الذكر ... فأردفت : تٌذكرني فيكِ .. انتِ وبيت جدتي .. 

كل شيء تبدل اليوم , وذهب السرور بأهله , رحم الله جدي وجدتي .. وكل من سار يوما بهذا الطريق.. الأعجوبة..


No comments: