Thursday 14 August 2014

مقال: مات ماركيز || هبه حداد

Share on Tumblr


مات ماركيز .. واجتثت الأشجار الأستوائية فقامت مذبحة بين جماعتين من الأفارقة وشردت عائلة أسيوية بائسة يوم قرر عامل أسيوي بأئس الأنتحار و أنحرفت بنت البحار التي ماتت والدتها بحمى التيفوئيد وهي تلد .. و بجوار إحدى حانات باريس التي كان يسكر فيها استاذ الجامعة متأثرا لهجر حبيبته الخائنة له ، اذ كان يقرأ عبارة ماكيز الشهيرة :"
إن الإنسانية كالجيوش في المعركة، تقدمها مرتبط بسرعة
 أبطأ أفرادها" ، كانت هناك عصابة بيع أطفال تهم بإنجاز صفقة مربحة!!

لم يعني لي موته أي شئ البته، غير أني تذكرت فيما غَبُر من أزمان كنت في زيارة لمكتبة الجامعة المركزية بصحبة صديقتي الوحيدة ، ولما كانت زيارتنا تخصها ، تركتها تبحث عن مرادها وأنطلقت نحو متاهة الأدب ... بالرغم من الجو الصيفي الخانق إلا إن تلك المتاهة كانت دوما رطبة ذات إضاءة باهتة محببة إلى النفس ، أعتدت أن أقرأ فيها جميع المؤلفات .. وأعتادت هي أن تسخر مني ...

- مائة عام من العزلة !! ألا يكفيك ما نحن فيه بالفعل من عزلة؟
- هو مجرد إسم عزيزتي ... علينا قراءة المضمون لنعرف عما كان يقصده من هكذا عنوان..
- يجدر بك أن تستعيري كتبا للماجستير .. لا أدري متى تجدين الوقت لهكذا سخافات؟
- أنفقت بسخاء منه معكِ لا نفعل شئ!! وتعرفين أن تخصصي متقدم ولا توجد له أي كتب في هذا المكان ...لما لا تتركيني أنتقي لكي كتابا !!
- لما يخلصوا المائة عام أو يموت ماركيز ..!

وحدجتني بنظرة مستهترة وتركتني ... أنا والكتاب و الردهة الباردة ...
ظللت فوق الشهر أغوص بين جنبات الكتاب اذرع المائة عام .. اختفت .. انشغلت عني كما ادعت.. أثرت العزلة والتوحد مع كتابي ريثما تعود ... فهي لم تكن تستطيع النجاة بدوني ...

بلونه الأصفر الفاقع بات الجميع يسألونني عن ما فيه الذي يجعلني أدفن رأسي منزوية بالأركان ... وعنها ..
لم تكن رواية "مائة عام من العزلة " فقط هو السبب وأنما ما بداخلها ... تناقضات النفس البشرية التي تجعل ذلك الشخص تائه عن نفسه ليكتشف ذوات غيره لكنه في عزلة تامة ... ربما ماركيز لم يكن يقصد فقط حياة إنسان واحد وإنما حياة أمة متشعبة الجذور ....

مات ماكيز يا أسماء!!! هكذا قلت لنفسي إذ لم تكن هناك أية أسماء .... لعل روحي المنعزلة تجد ملاذها الآن بعد ما تحقق إحدى الشرطين لفك سحرك الأسود !!!

موت كاتب مشهور هو منفعة كبيرة لا يفقهها سوى العاملين بنشر الكتب ، إذ بموت أولئك يُقبل الناس في أرجاء الأرض على شراء مؤلفاتهم واقتناء كل مطبوعاتهم ... فيزداد سهم الورق مبيعا وتلجأ مصانعه على اجتثاث المزيد من الأشجار الاستوائية التي تشرف على قطعها جماعة من الأفارقة فقتلوا طفلا بالخطأ، كان ينتمي لجماعة آخرى ولحظهم السيء اختبأ صديقه يراقب ما يفعلون وأطلق بعدها ساقه للريح فأخبر جماعته عما كان فدارت المجزرة بينهما لم ينج منها سوى الطفل الواشي والأشجار المجتثة التي أنطلقت في نفس ميعادها للشحن على ظهر أحدي السفن التجارية المكتظة بالعاملين من كل الجنسيات، ومنهم ذاك البحار المارسيلي الذي يعشق البحر بالرغم ما يخلفه قسوته وهيجانه في روحه من ألام ... لإيكاد يستقر على اليابسة حيث زوجته وأبناءه الاحدي عشر الذين أنجبهم في أيام اضطرابه المجنون على اليابسة يهيم على وجهه يعب من زجاجات الخمر التي يبدد فيها شقاء الشهور مترديا البحر العميم، فأن انطلقت بالجعير إحدي السفن قفز على متنها مخلفا وراءه الفقر و الخمر وأحزان اليابسة .... وجنينا اخر في بطن امه!

ومتى استقرت الأشجار بأحدي المصانع الآسيوية حيث يعمل ذاك العامل الذي احترق منزله المصنوع من الخيزران اثناء تواجده بالمصنع الذي يكد فيه ١٨ ساعة على مدار ٧ أيام بالأسبوع ولا يحصل على إجازة إلا صبيحة كل احد ليذهب للقداس والصلاة فيضئ شمعة هزيلة للسيدة العذراء ويتوسل بأسمها الحنون أن تشفي ولديه المريضين ... لكن العذراء لم تستجب فرجع يوما ليجد اللهب وقد ألتهم كل شئ واحترقت رئتا الصغيرين فزاغت عيونهما ينتظران الموت ..وطلب طبيب المستشفي مبلغا كبيرا نظير إجراءه جراحة من شأنها أن تنقذهما... فهرع إلى صاحب المصنع يقبل أقدامه ليقرضه بعض المال ، فرفسه الرجل مكيلا له السباب وخاصما اجر اليوم منه .... مات الولدان وألقت المستشفي الجثتين عليها أثار من ندوب متعددة بالصدر والجنبين!! فأنتحب المسكين تحت ايقونته العذراء يلومها إذ لم تساعده كما لم تفعل قط ثم ما لبث ان. ألقى بنفسه اما م القطار .. وترك زوجة وابنه صغيرة سيلتقطهما قواد ما لتنبريا كترسين في ماكينة صدئة !!

ذلكم القطار نفسه الذي يحمل منتوج الورق من مصنع الرجل عديم الرحمة متجها نحو احدي الموانيء التي تنقل بضائع ممليّنة يحرسها عاملون وبحارة تنز التعاسة من ملابسهم الرثة .. ويعود البحار الذي كان يوما نازحا من بلاد تنطق العربية بعد شهور طويلة مع الورق الفاخر الذي سيجد ألف يد تحسن إليه وترفق به بينما لم تحظ ابنه البحار لمثل تلك المعاملة ... فتقاذفتها الأيدي القذرة والأنفاس النتنة من رجل لآخر ... يوم لم تجد عملا غير هذا بعدما تركهم الاب بلا مال يذكر واقترب مولد الطفل الجديد وآلام التي كانت تخبز الجبن بالخمر الرخيص تبيعه للحانات القريبة مرضت فلازمت الفراش .. ولم تجد الأفواه الكثيرة خلاصا لها من الجوع فانطلقت الفتاة الهزيلة تسأل أصحاب الحانات عن عمل فساقوها نحو هوة سحيقة لم تعي فيها بيد من تنتهك ادميتها حتي وصلت ليد الاب المخمور .... أبتاه ماتت أمي !!! قتلها التيفوئيد و ماتت الطفل الذي وضعت !! ابتاه إخوتي جائعين !!!
اصمتي يا حقيرة وافعلي ما تفعلين هيا ... لا اريد ان يزيل هرائك لذة جسدك والخمر ...

وكما أفرغ الوغد بؤسه في ابنته ، أفرغت الشاحنات الورق الفاخر في صناديق خشبية كبيرة اُخٌفيّ في بعضها احدهم طفل رضيع مع ثلة آخرين تراصوا مخدرين كقطع اللحم المثلجة ... وكسبت الداية اللعينة حفنة من يورو تقيم بها جوعها حتى تجد ضحيتها التالية والتي في العادة مرآة حامل فقيرة من أقليات غير مصنفين بالدولة الأوربية المحسنة تحت بند بشر ،فتحقنها بالتيفوئيد قبل الوضع بأيام لتموت ويخرج الطفل ضعيفا فتغافل المكلومين وتسلمه لعامل بأحدى المعامل الكيميائية والذي يمدها بأمصال الموت الرخيص ... فيتقاسم كلاهما ثمنا بخسا لكل طفل يتم شحنه نحو العاصمة حتى تتمكن عصابة الاطفال من تصريف أعضائهم الحيوية سريعا دون أن تتكبد الكثير من الخسائر بموت أكواز اللحم المنوم دون الانتفاع بهم فيُلقى بهم في مستودعات القمامة ويؤخذ الناجون إلي أحد المسالخ المنتشرة في أحياء المهاجرين و المشردين التي يقطنها العوز و الرذيلة فتكوم القلوب والأكباد و الكُلى وتحفظ بثلاجات صغيرة يتولى بيعها بأغلى الأسعار رجل عصابات يبدو محترما جلس متكأ على احد مقاهي باريس يحتسى شرابه المفضل ويساوم زوجين الأثرياء في ثمن "كبد" طفل، إذ فشلت كبد ابنهم الصغير في العمل بعد أقل من ٦ أشهر زراعة بأرقى مستشفيات سويسرا وأتضح أن الكبد الذي أشتروه غاليا من مورد أسيوي تالف به نسب هائلة من الكربون ... كما اخبرهم الطبيب .. وهم الآن في امس الحاجة لكبد جديد حتى ينقذوا حياة ولدهم الوحيد ووريث أجداده المتخمين بأموال أسهم الورق التي أرتفع سهمها ...

فتتم الصفقة على ستة أرقام وتُسلم البضائع فينتشى رجل العصابات معرجا على حانة قريبة وفي نيته الاحتفال و العربدة فيما يجلس أستاذ جامعة مهلهلة قسمات وجهه يقرص على هاتفه في محاولات مئوية لإعادة الاتصال بزوجته التي قبل ان ترحل أفصحت عن قرفها منه و من حياته الرتيبة في مشاجرة كبيرة انتهت بصفعها و تكييل السباب ...فأعترفت بعلاقتها برجل ثري يحبها و يحسن معاملتها ...لم تجيب مكالمته فيما كانت هناك مكالمة عالقة إذ هي على الطرف الأخر يحادثها الرجل الثري صاحب دور النشر العريقة : "دعينا نحتفل اليوم عزيزتي .. سيبتسم الحظ أخيرا لولدي المسكين " ..
" أوه مون ديو .. كم أنا فرحة .. لنتقابل بالمساء إذن" ...

فيما اصاب زوجها المثقف الملل وشرع يقرأ مُعباً للخمر "الانسانية كالجيوش سرعتها مرتبطة بتقدم أبطأ فرد !!!

ماذا قلت إذن يا ماركيز!! ربما انت من أبطأ الانسانية !! لا اود ان اكون قاسية ، لكن هذا ما حدث ... بك و بغيرك ممن تطبع كتبهم بملايين الدولارات فتُسحق في المقابل ملايين الأرواح وتضيع ملايين الأمال !! فلم يكترث احدهم بعدما يفرغ من التنظير للإنسانية أن يكتب لنا كيف نكسر لعنة الإنسانية؟؟
لعنة أسماء والمائة عام ، ولعنة الورق والتروس الصدئة ولعنة المال الذي حول الشيوعية لرأسمالية بحتة تجز عن طريقها الأعناق المشرئبة للإنسانية رغم أنف افخر الأقلام الشيوعية !!

ربما كان يجدر بي وقتئذ أن انتقي كتاب "الحب في زمن الكوليرا" ، حتى اذا ما انفك النحس بموت ماركيز نعمت أنا بالحب و ماتت الخائنة بالكوليرا... ربما..


No comments: