Thursday 14 August 2014

قصة قصيرة: "إيميل العيد" || هبه حداد

Share on Tumblr
ما الذى يجمعنا سوى بعض الذكريات التعيسة , عن ايام ولت و لن تعود , ربما لمن يكن لها اى مغزى فى حياتنا سويا سوى الهروب مؤقتا إلي عالم الآمال الوهمى الذى لا يحتمل لحظة مواجهة واحدة مع الواقع المرير! ذكريات يمر ماضيها كشبح مغلولا بالقيود يجرها فى لهاث محاولا الاختباء فوجوده لم يكن ابدا محبذا و ما هو إلا مزيج مشوه من صبينه الماضى و تخبط التقاليد!
بمزيج من الحيرة و الشفقة نظرت إلي إيميلاتها لترى واحدا منهم قد اتى كعادته , كما اعتاد ان يأتيها بالعيدين , الفطر , الأضحى , وكذلك مع بداية العام الجديد , بعدما كان يأتيها باستمرار كل يوم ثم تلاشت قوة الشغف او سَمِها الإدمان فأصبح كل شهر و بعدها كل موسم او عيد ! وأخرهم هذا الايميل وفحواه في كل مرة عبارة واحدة "كل عام وانتِ بخير , طمنينى عنكِ"!!, وتجاهلها لم يمنعه من محاولات الإرسال المستميتة وكأنه يحاول الاعتذار او ربما الاستغاثة !
وصول الايميل لم يكن يعنى لها شيئا , على الاقل حاليا فلم يكن يجلب غير ذكري عانت بسببها كثيرا لتعالج الامور لصالحها منذ زمن بعيد متناسية تلك الفترة نهائيا , , "اخ : كم كنت غبية!" تحاور نفسها لتتأكد انها تردد نفس العبارات التى سمعتها مرارا ممن كانوا اطراف النزاع ! لا , لا لم يكن مجيئه محببا على الإطلاق ولكنه يروح ويأتى معبئا بدموع الدهشة تارة و الحزن تارة اخرى التى هى هدية الاعياد يحملها لها ذلك الايميل !
عشرُ سنوات ! , نعم انها عشرُ سنوات او تزيد مرت وكأنها لم تكن , منذ اخر مكالمة تليفونية شملت كل انواع التجاذب , فتارة بالتذكير بالحنين و تارة اخري بالصراخ الغاضب جراء الاخفاق للوصول إلي حل مرضى! , ومحصلتها كانت إغلاق الهاتف بين طرفين حالت دونهما عقودا من شاسع الاختلاف بين جنوب الأعراف والتقاليد وشمالهما , تلتها عشرِ سنوات من صمتها و من إلحاحه ايضا. ويالغرابة الإلحاح بالرغم من وأد القصة حتى قبل ان تبدأ!
ترى ما الذى دار بحياته خلال هذه المدة و لماذا كل هذا الاصرار على سماع اخبارها ؟ ألم يكن الدرس قاسيا بما فيه الكفاية ليكرهها ويكره مثل هذه الذكرىات! تساءلت و هى تقرأ حروف عبارته مرة تلو الأخرى محاولة ايجاد ما يجيب تساؤلاتها , ولماذا الاعياد التى دأب فيها على مراسلتها بعدما مكث وقتا طويلا يكتب ويكتب و يتوسل وكأنه طفل يستجدي امه التى تنوي تركه على اعتاب ملجأ ما ! وما كانت هي لتجيبه لان الأمر كان ليصبح اكثر تعقيدا لو انها اجابت , فاعتزمت منذ مدة بعيدة على غلق كل الطرق امام هذه الذكرى المشوهة وبالرغم من ذلك فان خيارات مثل البلوك والدليت و السبام لم تثنيه عن انشاء الجديد والعديد من الحسابات و ارسال ايميل العيد !!
ماذا يريد بعدما استسلم و ذهب ليتزوج من القروية التى اختارتها له عائلته نكاية فيها و تركها هى لتخوض حرب الاستقرار بعائلتها وحدها ! وهي من هي , بنت عائلة لم تمنعهم ثقافتهم و شهاداتهم اللامعة من ان تعتنق تقاليدها ابا عن جد ولا ينول شرف الزواج من نسائهم إلا ذا حسب وشرف معروف وقريب الاطراف لا بعيدها , ناهيك عن ما لاح به مستقبلها الأكاديمى من بوادر آمله بمقاييس محددة سلفا لمن يقترب , فهى مدللة اهلها و عظيمة الرأى عندهم , او كانت قبلما يأتى هو ليفسد ذلك كله !
فى احد المؤتمرات التى كانت تعقدها الجامعة تلاقيا , و الحقيقة انها هى من بادرت بالسلام , محاولة ارشاده طريقه فى جامعة مدينتها التي لا يعرفها بعدما لاحظت عصاه الكبيرة التي يتكئ عليها ! اعاقته كانت سبب اشفاقها عليه فى بادئ الأمر , ارشدته الطريق , وتلاقيا ثانية فى المحاضرات و ثالثة فى اجتماع المشرفين و رابعة فى عشاء ختام المؤتمر وأخيرا تجاذبا اطراف الحديث , ومنه عرفت انه يدرس شهادة الماجستير فى الكيمياء و الابن الاكبر لأسرة فقيرة لا يكاد معيلها يستطيع ان يتحمل مسئولية باقي الابناء فأصبح يساعد ابيه في حملها على كاهل مٌتعبُ بالوراثةِ. هو نمطُ لطالبٍ فقير مكافح استطاع ان يكون دارسا للماجستر تم رفض تعينه معيدا لأعاقته و اخذوا مكانه لأبن فلان الفلاني السليم !! قصص عن التضحية و الكفاح كانت لتُلهب الحماسة المتقدة وقتها فى نفوس كليهما بأفكار التحرر و الأمال البراقة , و خطط التغير نحو الأفضل لم تمكث طويلا ليكتشفا انها علاقة تبدو بالنسبة لواقعهما ساذجة وبريئة وفاشلة فى أن واحد !!
لم يكن رفض عائلتها العاصف هو إجابة طلبه فقط ولكن حرمانها من التحرك قيد أٌنمله نحو اى مكان , أدت إلي حصار اشتدت وطأته عندما حاول ثانيا و بنفس الاصرار استلم ردهم   "معندناش بنات للجواز !!!" , واستمر السجال والمحاولات الفاشلة و دموع غبية منهمرة , تشعرهما بالإحباط احيانا و بالغضب احيانا كثيرة و القهر وقلة الحيلة طول الوقت!! استعانت هى بإفراد من عائلتها لتلين بهم قلب من رفضوه لأسباب لا يملك فيها اختيارا , لكن الغزاة ما اتوا ليغزوا ! فهم انفسهم حاوروها حول اسباب رفضه التى بدت للعاقل منطقية وللمحب كأقسى اساليب القمع , ورسموا لها الصورة المؤلمة عن المعاناة فى حالة ارتباطها به , فقر , حرمان , احساس بالنقص , ستؤدى حتما لزيجة فاشلة !! ورغم ما لاقت من عائلتها لكنها لم تسمح لقلبها ان يصيب كرامتهم بمكروه و تحملت الظيم على امل ان يأتى سببا ما يغير ما فى عقيدتهم من تقاليد راسخات.
لم يتحمل الصراع طويلا فذهب ليتزوج هو بمن اختارتها له عائلته حتى لا يضيع فى حالته التى أل إليها من حزن ووجوم و مكالمات لا طائل منها إلا مزيدا من الاحباط و ليثبت بها امام الجميع انه مطلوب وعائلات كثيرة ترنو لمصاهرته ! تناول الهاتف فى احد الايام ويديه ترتعدين وعقله يشحذ همته للمواجهة الاخيرة , اخبرها بما نوي محاولا انهاء كل شيء. انتهت مكالماتهما الاخيرة بعد سيل من اللعنات و الحسرة !! وباتت هي امام خيار واحد , رأب الصدع الذى شاب حياتها واسترجاع موقفها امام عائلتها متحدية من اجزم بفشلها يوما ما ! كانت تمشى بين جنبات الجامعة صامتة كالطرقات , تعمل ليل نهار وقد صهرت كل مجهودها بعيدا عن ما حدث , حتى بات الجميع يتسائل عن سر الشحوب بعدما كانت كالشعلة المتقدة تحمل الأمل لكل درب تخطو به , وساعدها على الهروب من ملاحقة الناس طبيعة عملها المستمر فأدمنت العمل هربا و راحة في أن واحد, لكن هذا لم يمنع احدى زميلاتها من مباغتتها سائلة "وكأن بصدرك فوهة عميقة " ؟! اشاحت بوجهها بعيدا بعدما اجابتها بابتسامة خافتة "انه العمل , اعتقد انى اجهدت نفسى هذة الايام" , وعقلها الذى استلم الراية ردد قائلا "اللعنة"! , ليس علي التبرير لماذا اشعر بالحنق و الاخفاق والحزن , ألا يكفى ما انا فيه" !!
بعد شهرين من تلك المكالمة الأخيرة , ارسل لها ايميل كتب فيه اسمى ايات الاعتذار , فلم تعره انتباها , فتلاها بإرسال سيل من الايميلات , مبررا رجوعه بعد قدرته احتمال عقلية من ارتبط بها كيف لم تتجاوب مع طموحاته واماله , كهذا كتب مرات ومرات فى ايميلات تعلو حروفها الحسرة والضياع , ولكن متى؟ الآن؟ وبعدما فات اوانها ! فلم يعد فى حساباتها اى مجال للسذاجة او الاشفاق مرة اخرى.
وفى العيد الاخير اتت الرسالة كما هى العادة على حسابها القديم الذى تعلو صفحاته غبار سنين مضت , عمدت فتحه بالرغم من عدم اهميته و كأنها تريد ان تتساءل بين خلجات عقلها هل ارسل هذا العيد شيئا ؟ قرأته على جهازها الذكى , وجاء القرار سريعا ان تجيبه هذه المرة , لم تريد ان تفعل ذلك لتؤلمه ولكن لتطوى صفحة عشر سنوات ضاعت هباءا فى انتظار رد لن يشفى حنينه نحو القرب منها مرة اخري.
هي : "كرد اخير على رسالاتك المتكررة اجيبك , ماذا متوقع ان اجيبك بربك؟ , لقد مر دهرا كفيلا ان ينسيك ما كان , فلما عناءك فى ارسال معايدات لم ولن تضيف شيئا! اصنع بنفسك معروفا وانشغل بأحوالك فلست بحاجة لسؤالك عني, ولأريحك سأقوم بإغلاق هذا الحساب نهائيا!"
وجاءها جوابه سريعا للغاية , قائلا : فقط حاولت الاطمئنان عليكِ , واعدُكِ انى لن ازعِجكِ مرة اخرى!!"
وقد كان....


No comments: