Wednesday 13 August 2014

قصة: بائعة المولوتوف (الحلقة الثانية) || هبه حداد

Share on Tumblr
ظل يفكر في اي اتجاه يذهب , لم يدري ما اعتمل بداخله من دهشة و فضول حقيقيين ليعرف ما الذي يدفع كاتبة كُتبها دوما ما كانت تروق الكثيرين وتلقى رواجا لكي تترك القلم وحياة الأدب و تعتنق المولوتوف , معرضة حياتها و أمنها للخطر. . وللمهانة..
الأصوات بخارج المحطة الأرضية مرتفعة , وقع الأفكار برأسة متواترة عالية ,, كوقع خطى اقدام فرقة هائلة من الجند اقتربت منه بينما مازال ذهنه لم يصفو من تساؤلاته ....
لم يكد يراهم حتى ألقى بزجاجة المولوتوف جانبا بحركة لا إرادية , لكن ذلك جاء متأخرا ....
تقدم نحو في شراسة الضابط الذي يقود الفرقة يمسك هراوة سوداء غليظة بإحدى يديه و باليد الأخرى سلاحاً أليا , فسأله في غلظة : ما هذا الذي بيدك؟؟
هو: لاشيــ..
لم يترك له مجالا لكي يجيب, فتابعه بسؤال اخر .. ..
ماهذه ؟؟؟
هو (خائفا) كتب..سيدي..
الضابط: لا تتظاهر بالغباء ,,رأيتك تلقي تلك الزجاجة
هو: لا لا .. انها كانت هنا.. انـ .. ـهـ
لم يكد يكمل كلمته حتى انهال عليه ضربا بالهرواة ألقته مكوما على درجات المحطة , وانتشرت كتبه من حوله , فكأن ذلك كان شارة البدء لباقي الفرقة ان يوسعوه ضربا ,,
ولم تنفع تلك الصرخات المتوسلة التي اطلقها في أن تنجيه من بين ايديهم , ومحاولاته البائسة بتغطيه وجهه لم تفلح ان تسد منابع الدم التي تفجرت فيه كالأنهار , فجعلوا يسبونه بكل نعت سيء وبأقذر ما شملته خلائقهم من غل , وجمعلوا كتبه ومزقوها فوق رأسه , ليتلقى الضرب تارة لنفسه وتارة لكتبه !! فسددوا له اللكمات والرفصات بوجهه وعلى يديده و رأسه و ساقيه و بطنه وعلى ظهره بأحذيتهم السميكة الجافة كرصيف اسمنتي يغلي في يوم شديد الحرارة كاشطا وجهه...
لم يكن يوما ذا تاريخ ثوري .. هو شاب لم تنتهي سنواته العشرين بعد, رجل عادي يعيش كما تعيش ملايين من الناس.. كل شغفه يصبه على الكتب وقراءتها وطباعتها وبيعها ليقتات من ذلك ..
يومه البسيط ليس فيه سوى تلك النشاطات المعدودة , فلم يعرف يوما سبيلاً للتظاهرات او المعارضة ولم يهتم بها مطلقاً ... هو شخص انفصل عما حوله وأوى إلي جبله لكي يؤمن لنفسه عيشة هادئة مستكينة في مدينة تملئها حارات الرويات و بيوت الأشعار و أروقة الثقافة ....لكن الجبل لم يكن يوماً شديداً..
لم يكن يتصور أنه سيهان هكذا يوما,, لأسباب بدت له غير مفهومة... لم يكن حقا يعي انه هو هو من يتلقى اللكمة وراء الأخرى و الهراوة تلو الهراوة على رأسه وانفه و عينيه و صدغيه وذراعية اللتين تكسرتا وهي تحمي جمجمته ...
اخذه الألم المبرح بعيدا عن تلك البقاع المدمية في ذاكرة جسده, إذ لم يكن يفكر في شيئا وقتها إلا كلماتها ... "عشت الخوف ..عشت الخوف ... عشت الخوف اكثر من عدد اوراق كتبك" ....
أحس بالكلمات تتكرر من شفتيها على لسانه , ويتردد صداها في اذنيه اللتين جعلت تضخم الحروف بنبرات عالية مدوية , منقوشة بخيوط من دمه انسته ما تفجر في جسده من ألم ...وحملته نحو خيالات طيفية لم
يكن يتوقع يوما أن يراها .. مزيج من النور و البريق يضرب رأسه لتتطاير العبارات من حوله في دوامة تدور هي في محورها مادةً يديها بالزجاجة عندما تركته وعلى طرف شفتها ابتسامة كظمها الحياء ...
مخيلته التى ألهبها الألم جعل رؤيتها مواساته في تلك الدقائق التي بدت لا متناهية ... قبل ان يفقد الوعي ويغمض عينيه على وهج انفجار اصابه دفئه وكذا لهيبه.. كوم الجنود من حوله يتقافزون هربا , فيما انطلق ذلكم الضابط مشتعلا هو يصرخ في فزع...
أسلم عينيه للثبات...
تنظر له عن قرب بينما يقوم بفتح عينيه ببطء ..
هو (في تهالك لم يخلو من نبرة فرح طفل بلقاء أمه التي تاه عنها) : انتِ !! لقد عدتِ .. لقد عدتِ.. لقد عـــُــ...
هي: نعم عدت...فقط لا تتكلم الآن .. اهدأ..
فتعاوده الغيبوبة .. وتنسدل عينيه على صورتها ...مجددا
يفيق متثاقلاً يجر روحه من الغيبوبة جراً , خلايا جسده كلها تُسمعه نحيب الألم بجنبات روحه... عقله لا يعد يستوعب الأمر .. مُنفصل تماما عما يشكله إدراك حسه بالمكان ...
يفتح عينيه في بطء حذر ...ينفجر ضوء المكان في احداهما , إذ لم يقدر على الرؤية بالأخرى التي غطاها رباط طبي..ترهقه الرؤية كما تؤلمه عدمها ... فجعل يجاهد ليرى ما حوله...
وجد نفسه على فراش ابيض ,, فهم بتحريك يديه ويشعر بثقلين من نار قد مرقا للتو بعقله .. ليجد ذراعه قد تكسرا ووضعا في جبيرة بيضاء .. , وكرر المحاولة مع ساقيه فلم يلبث أن أحس بقيد وقد غل قدمه واوثقه بأخر الفراش ..
وحينما حاول الحركة قليلا , جاوبته وخزات الخناجر بخاصرته و اسفل ظهره و عنقه و أعلى ساعديه منتصف صدره الذي يصدر قرقعات مع كل نفس يخرجه كفوهة بركان يوشك أن ينفجر...
في تناقض احساسه بالملموس من واقعه احس برغبة هائلة بالصياح ... ربما ليعوض الصياح الذي لم يجرؤ عليه وهو يُضرب تحت احذية الجنود حتى الأعياء ..حتى الخيال الأبيض السقيم بنجومه المتكسرة....حتى الموت...
يصرخ بدموعه المتفجرة قبل صوته ...أأأأأأأه
اصوات خطوات تقترب منه ... احد الأطبة يحادثه ..
الطبيب: اهدأ..لا عليك ..أهدأ..
يثبته بفراشه بعناية ..
هو (هلِعاً): أأأه ...ما...ذا ....أين...أين أنا.. أين أنا.. ؟
الطبيب (هامسا): ششش حاول أن تهدأ أرجوك ...
هو: أين أنا ....كيف جئت هنا ....ما...ذا ألم بي؟
الطبيب: ألاتتذكر شيئا؟
هو (مسترجعا في بطء ما حدث قبل أن يفقد وعيه) : كل ... ما اذكره هو الفتاة ...و جند كثيرة ...والألم...وأنفجار
الطبيب: .. اصمت إذن .. إسترح...و ادع الإعياء ..
هو: ما .. ما الأمر ؟
الطبيب: فقط نفذ ما قلت .. بقدر ما تستطيع ادع الإعياء , وإن استطعت أن تمت لساعة فأفعل.. هذا لمصلحتك .. سأوافيك لاحقا.....
يهرع الطبيب خارج الغرفة ..فيناديه هاتفا
هو: أأ ... أخبرني ... أرجوك.. كيف جئت إلى هنا؟
الطبيب: متلفتا وراءه .. سأشرح لك كل شيء .. فقط ارقد الآن ولا تتنفس ..
يعاود الرقود ثانية .. وعقله مسلوب من قبل الخوف والهلع والحيرة و الألم جميعا .. يحاول أن يتذكر ما حدث , ولا يستوعب ماذا يجري له, ولا يعلم ماذا عليه أنيفعل ..إلا أنه لم يجد حلا إلا أن يلتزم بما قاله الطبيب...ويسلم عينيه للنوم ....
لم تمض دقائق حتى دخل ضابط من رتبه ليست بالكبيرة مع مجموعة من الجنود.. يظهر عليه علامات العجرفة , يحمل أوراقا في يديه , سائلاً الطبيب الذي عاد معهم بنرة عدائية ...
الضابط : هل افاق؟
الطبيب: ..امم.. اخبرتك سيدي .. لم يفق احد ..
الضابط (قائلا بنبرة حادة): سنحقق مع من كان سببأ في الإنفجار ..كل من جاء من موقع الحادث جنود وهو المدني الوحيد !
الطبيب: أدرك ذلك سيدي طبعا.. لكنه في وضع حرج .. قد اصابه شرخ بالجمجمة وتهكتك بالقفص الصدري وكلا ذراعيه مكسورين في أكثر موضع و عنده حروق .. ..(فمال نحو الضابط قائلا)
لا أخفي عليك ربما لن يفق عن وقت قريب .. وأري...
الضابط (مقاطعا ): لا تملي علي ما أفعله ..
الطبيب: يطبق على شفتيه ..
كان يسمع حوارهما ولكنه صارع في عقله وبين ضلوعه كل رغبات الخوف و الألم التي تلاحقه كالأشباح المتعملقة تطلبه ركضا في كهف مظلم ... حاول أن يتصنع الموت كما أشار عليه الطبيب الشاب...استرجع كل الكتب التي قرأها عن التحكم بالعقل وقدرته على السيطرة على آلامه ... كانت يجد لذة في التدريب عليها من قبل و إن لم تكن تجدي شيئا وقتها .. ربما كان عقله في حاجة ماسة إلي أن يجد جسده على حافة الجنون كي يتقن دور المُتحكم...يتنفس في بطء ..حتى كاد أن يتنفس من مسامه ..
ينظر له الضابط بطرف عينيه في صرامة ثم يقترب من الفراش ليلكزه بقوة في صدره ..
يكاد لسانه ينفلت صارخا من قوتها لكنه تماسك بقوة , فأعاد الضابط الكره مسددا
لكمه وضع فيها كل عزمة في صدره ... أرسلته في غيبوبة وهو كل ما احتاجه الأمر بالنسبة له ....
بعض وقت مر...لا نعلمه ...
يفتح عينيه في بطء شديد ... تعاوده الآلآم المبرحة .. يحاول أن يتحرك ...يستجمع كل قوته ... يدور برأسه... يجد الطبيب بجواره نائما على كرسي متهالك ...
هو : سيدي ...
يفز الطبيب من غفوته
الطبيب: ها ... قد أفقت .. حمداً لله ...
هو : ما حدث لي .. هل أنا في مشفي أم مسجون؟
الطبيب: لا تقلق ... انت حر .. لقد سبكت عليهم دور موتك يا رجل ..انت ماهر!
هو: أنا؟ ... لا أدرى عما تتحدث ...
الطبيب: لقد رُحت في غيبوبة فعلا ... ذلك الحقير جعل يلكمك حتى تفجرت دماؤك من فمك ..وحين لم تفلح لكماته في إحراز أي تقدم يرضى نزعته السوداء على فراش تمددت فوقه جثه تقيء دما , تزمر ببضع كلمات ثم أمر جنوده بفك قيد ساقك.. ورحلوا في زوبعة....
هو : هل مكثت كثيرا بغيبوبتي؟..
الطبيب: لا.. فقط أسبوعين !
هو : أسبوعان ؟؟ (يحاول القيام ) : هذا كثير .. أريد أن اخرج من هنا ..
الطبيب: عليك أن تخلد للراحة حتى تلتئم جراحك كلها ... جبيرة يديك لن تخلعها قبل أسبوعيين اخرين ..
هو: أنت لا تعلم شيئا .. المكتبة ..وعملي .. ... أنا... لا استطيع..علي أن ابحث عنها
الطبيب: من تقصد؟ أحد من العائلة ؟ استطيع أن اكلمهم لك ..
هو: نعم .. افعل أرجوك .. اريد أن أرحل ..
الطبيب:سأكلم لك أهلك ليخرجوك من هنا ..قد يعاودوا التفتيش في أي وقت.
فيعطيه رقم هاتف أهله...
الطبيب : حسنا ...فقط .. اود أن اخبرك شيئا
هو : ماذا
الطبيب: احدهم ترك لك شيئا
هو: من ؟
الطبيب (يخرج ورقة من جيبه ... عليها آثار حريق .. فيعطيها له ): أوصتني ان أعطيك ورقة... قالت انك قد تفهمها ..
هو (يقلب عينه المتماثلة للشفاء بالصفحة التي مد الطبيب يده بها وقال في آلم متلهف) :الفتاة.. هي هي ؟.. ماذا بالورقة ...ماذا بها؟
الطبيب: لا ادري حقا ..هي ورقة مقطوعة من كتاب ..عليها آثار حريق وتفحم ...سأطويها لك حتى تأخذها عند خروجك .
يضعها تحت وساتدته ...ويهم بالخروج...
هو(مناديا على الطبيب): اشكرك .. اشكرك حقا ..
الطبيب: لا عليك ...هي أوصتني بك ...
هو (محسا بقلبه ينبض بقوة تحت صدره المحطم) : أأحقا؟
الطبيب: نعم ..
هو: كيف عرفت أني هنا؟
الطبيب (مبتسما): أنت حقا لا تتذكر شيئا ..
... ويغادر
تضطرب المشاعر المختلفة في صدره , يشعر بالنبضات متلاحقة بين جنبيه وقلبه و يديه المتلهفتين لمسك الورقة .... عينه المتورمة تريد أن تلتهم ما كُتب بها من كلمات ... مسترجعا آلام جسده و نفسه التي مزقتها المهانة قبل الجروح, مستجمعا كل اسباب غربته بين الناس ومقايضته اياها بعزلته الحميمة بين ازقة الكتب , يعيش مستقراً هناك وحده , لا يجابه الطوفان ولا يغرقه طغيه..ترقرقت في عينيه الدموع .. فأنسابت تسقي روحه الظمأى بميلان رأسه نحو مستقر الورقة في عقله وتحت وسادته... يستشعر ومضات الحنو و الطمأنينة ...
هو (مفكراً) : ماذا كَتبت بالورقة ؟ ؟

No comments: