Friday 23 January 2015

خواطر "قسيم الروح" : ذِكّرْ | بقلم: هبه حداد | أداء: زينب فرحات

Share on Tumblr


خواطر “قسيم الروح” : الطريق الأعجوبة - ذِكرٌ
    بقلم :هبة حداد
    تدقيق لغوي:سارة سرحان
    هندسة صوتية وأداء:زينب فرحات
المطرُ يناجيني إغراءً بالوقوفِ تحتَهُ, لأتلقَّى رحماتِ ربِّي من حديثِ العهدِ بربِّه,,, لا أعرفُ لما يُدمِعُني المطرُ؟ حقًّا !! ليس دمعًا من حزنٍ ولكنه اختِلاجُ رفرفاتِ عصفورٍ بجناحيهِ الصغيرينِ في قلبي المتأمِّلِ الناسكِ بمحرابِ وُدِّك ...فتعلو على الشفةِ بسمةُ رضًى وتسحُّ من حبَّاتِ العينِ دموعُ الطمأنينةِ .. ولكَ أُرسلُ مع حباتِهِ المتلألآتِ دعواتٍ للهِ صادقاتٍ .. .. المطرُ وأنتَ ستذكراني دومًا ببيتِ جَدَّتي والطريقِ لجلسةِ الذِكرِ الأعجوبة ..
استوقَفَتْني في ردهةِ معرضٍ كبيرٍ للأثاثِ .. يحيطُها العديدُ من غيرِها من اللوحاتِ .. وهيَ وحدُها من جعلَتْني أقفُ كثيرًا أمامها ..ليقفُ كلُّ ما يتحركُ من حولي .. وكلُّ صخبِ الأطفالِ الراكضينَ وصيحاتِ الأمهاتِ تمنعهم من الزَّيْغِ بين الناسِ .. وشروحاتِ الباعةِ ممن يُزيِّنون بضاعَتَهم البرَّاقةَ .. أو القديمةَ .. وأحيانًا المعيبة.. ويشمَلُني هدوءٌ وسكينةٌ فجائيةٌ .. وضوءٌ أبيضُ ملفوفٌ بنغمٍ قديمٍ غيرِ معروفِ الترانيم.. طواحينُ السميدِ ورائحةُ الخبزِ المكتظِّ الجوانبِ .. كانت تسميهِ جدتي بالشَّمْسِيّ .. وغبارُ القمحِ المجروشِ و حفائفُ الرَّحاةِ وهي تمرُّ دورةً مستقرةً كاملةً نحو الطرفِ الذي لم يَبْلَ بعدُ من دائرةِ حجرِها العتيقِ و ... و هذا الطريقُ ... اللانهائيُّ .. الساكنُ .. الباردُ .. الحبيب..
لم يأخذني تصميمُ الزوايا بقدرِ ما كان يشغلُ ذهني دومًا - وأنا صغيرةٌ - أن أمشي فيهِ غائصةً بين جدارَيْه المتوازيينِ وكأنهما طَوْدَيْنِ يتلمَّسانِ السماءَ ويكادان أن يعانقاني .. لأتوحَّد , سوى ماهيةِ الاحتمالاتِ التي قد ينتهي عندَها هذا الطريق.. بالرغمِ من أني حفظتُ الطريقَ جيدًا ... لكنَّ عقلي كان يغلِبُني في التخيلات .. من كشكِ البقالةِ حيثُ كنتُ أُلِحُّ على أمي أن تدعْني أذهبُ لأبتاعَ السكاكرَ وحتى بيتِ جدتي مقدارُ مائةِ خطوةٍ من طريقٍ متعرِّجٍ .. ساكنٍ , نادرًا ما يمرُّ به أحدٌ سوايَ في كلِّ المراتِ التي مشيتُها فيه .. وبرغمِ معرفتي الجيدةِ بنهايتِهِ الوشيكةِ ..إلا أني كنت أراهُ طويلًا متمايلًا متعددَ النهاياتِ وفي آخرِهِ شيءٌ غيرُ متوقَّعٍ البتة .. وكنتُ أصدقُ عقلي .. كتلكَ المرةِ التي رأيتُ فيها النورَ .. آخرَ الطريق ...
الطريقُ لبيتِ جدتي المُستكينُ كبسمتِها الموشومةِ بوجهِها.. بقعتي المحببةُ في كلِّ الأرضِ بعطلاتِ الصيفِ القليلةِ التي سمحت لي أمي بالذهابِ .. لأنني كنتُ أمرضُ كثيرًا هناك .. إحدى النساءِ قالت لها: ابنتُكِ ستُنظر , لا تدعيها تمشي وحدها .. وأخرى أفتت: مسَّها طائفٌ يُحبُّ الأطفال.. وأنا في فراشي أتنفَّسُ الحمَّى .. ولا أقوى على قولِها .. رأيتُه .. رأيتُ الرجلَ ذا الرأسِ الكبيرِ .. مشى بحذائي ..رمقني بابتسامةٍ أخافتني... ذهبَ ولم يؤذِني .. لكنها كانت تُرَّهاتِ طفلةٍ تتقلَّبُ في جسدِها متعرقٍ ومنتفضٍ ليلاً من الشمسِ التي لَفَحَتْ جلدَها الباهت...
وكما قال أحدُهم القلبُ الحيُّ يحيي الجماداتِ من حولِهِ ويحرِّكُ ساكِنَها، ويفهمُ لغتَها، نعم فهي تتحدثُ وتشتكي وربما تتألم .. ولا يدرِكُ ذلك إلا قلبٌ حيٌّ يفيضُ إيمانًا...لم أرتبط حقيقةً بجدَّتي بقدرِ ما ارتبطتُّ ليسَ بقدرِ ما ارتبطتُّ بتلكَ الطريقِ الأعجوبةِ المؤديةِ له .. ومبنى الحظيرةِ التي كانت تشرِقُ فيه الشمسُ وتغربُ عنده أيضًا.. والحيواناتِ التي كنتُ أُحسُّها عملاقةً بشكلٍ مخيف .. وخزينِ القشِّ الذهبيِّ يحملونَهُ حيثُ تستقرُّ الشمسُ عاليًا بالسقيفةِ , التي حاولتُ صعودَها يومًا فلم أَنَلْ سوى ألمِ التواءِ كاحلي ...وأعشاشِ الحمامِ.. بترانيمهِ المزعجةِ صباحًا ,, وكأنهم في مظاهرةٍ .. غيرَ أنها كانت مضحكةً وقريبةً للقلبِ... ودارِ الضيافةِ العيساويةِ يسمُّونَها "مندرة" يفصِلُها جدارٌ عن بيتِ جدتي, والتي دَأَبَ جدي على أن يستقبلَ بها ضيوفَه والمارينَ وظلَّ العهدُ باقيًا حتى بعد وفاتِهِ ووفاتِها ... كلُّ شيءٍ فيه كان جميلًا ومحببًا .. باردًا في أكثرِ أوقاتِ الصيفِ كآبةً و حرارة .. وأفضلُ أوقاتي فيها وهيَ فارغةٌ قبلَ المغيبِ .. وتصميمُها النمطيُّ ككلِّ المباني القديمة ...بأسقفٍ عاليةٍ و جدرانٍ مزينةٍ و قاعاتٍ امتلأت بالفُرُشِ لاستقبالِ الزائرينَ.. وبهوٍ يمتلئُ بنسخٍ للمصحفِ الشريفِ حيثُ تقامُ حلقاتُ الذكرِ التي كنتُ أتوسلُ لأمي لتدعني أذهب .. لكنها كانت ترفضُ .. فأستغلُّ فرصةً انشغالِها .. لأذهبَ وأرى القاعةَ وقد اكتظَّتْ بالرجالِ .. يقرأون القرآنَ ويختمونَه ويهلِّلونَ ... وكانت تلك من أندرِ اللحظاتِ نورانيةً في حياتي ..حتى يكتشفَ وجودي أحدُ أقاربي فيُعيدُني لأمي المشغولةِ بالحديثِ غير المفهومِ البتة مع باقي نساءِ أسرتِها ... وأنالُ نصيبي من التقريعِ .. عندما عُدتُ باللوحةِ للبيتِ .. رفعتُها بجانبِ وجهي .. وسألتُها : أتتذكرين؟ حلقةَ الذكرِ .. تذكِّرني بك.. أنتَ وبيت جدتي ..

أقرأ المزيد من أشعاري: facebook.com/hebazpoets 
أسمع المزيد من أشعاري: https://soundcloud.com/heba-haddad
أقرأ المزيد من ديوان "رواية سهرودية" : 
أقرأ ديوان رواية سهرودية على جودريدز

ديواني على جودريدز

No comments: